استهوت الناس أهواءهم، وهووا في متاع الدنيا، وغشيهم من زينتها ما غشيهم ، واستلهبت عزائمهم في جمع الأرزاق معلّقين مطالبهم بأسبابهم حتّى لم يعد مجال لطلب الرزق من صاحب الرزق الحيّ القيّوم القائل : {يا عبادي! كلّكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم}
.
هذا العالم اللاهث خلف المادّة إن لم يفقه معنى فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] لن يكفيه قوته، وهذه الحالة المحزنة لخلق الله الذين يسعون في أرضه على غير هدى، ومطامعهم التي تستنفرهم لجمع المال وترك العبادة ونسيانهم وتناسيهم لحقّ الله في مكاسبهم: يقول الله تعالى: ((يا ابن آدم أنفِقْ أُنفِقُ عليك)) رواه مسلم في صحيحه ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) رواه البخاري ، وصدودهم عن أرحامهم المساكين (( من أحبّ أن ينسأ له في أجله ويبسط له في رزقه فليصل رحمه )) أخرجه ابن حبان في صحيحه : ((إنّ أعجلَ الطاعة ثواباً لَصِلَةُ الرحم، حتى إنّ أهل البيت ليكونوا فَجَرة، فتنموَ أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)) حديث صحيح رواه الطبراني ، وتصريفهم لأموالهم في وجوه تغضب الرزاق، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: ((لا يردّ القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه )) صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
كلّها مؤشّرات دليل على قلّة الرزق أوّلاً ومحق البركة منه ثانياً.
الكريم – سبحانه- يده سحاء تعطي بغير حساب، فمم يخاف المخلوق وقد خلق الله من أجله كلّ شيء، وسخّر لأجله كلّ شيء؟( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأعراف:32،
خزائنه ملأى لا تنقص إلا كما ينقص رأس المخيط من البحر، والمخيط ملكه، والبحر ملكه، ولا ينقص من ملكه شيء، قال شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله-: "إنّما خلق الله الخلق ليعبدوه، وإنّما خلق الزرق لهم ليستعينوا به على عبادته" ولا يعني ذلك أنّ الله يوزّع الأرزاق بحسب الناس فيعطي كلاً على نسبه، أو مكانته، أو عافيته، إنّ الرزاق حكيم يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، قال الله تعالى: وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ في ٱلْرّزْقِ [النحل:71] ، إنّما الغنى غنى النفس، ومن غنيت نفسه وعفت عينه، وقنع قلبه أوتي ملكاً كبيراً، وخيراً وافراً وارفاً مديدا (( إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه )) رواه البخاري ، ولقد قال عمر بن الخطاب لأحد أصحاب الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- : "واقنعْ برزقك من الدنيا فإنّ الرحمن فضّل بعض عباده على بعض في الرزق . (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الشورى:27.