حين تختلط الافراح بالاتراح..في زفاف عروس . قصة حقيقية.عروس تزف ونعش يحف
--------------------------------------------------------------------------------
كان شيخاً كبيراً....رجلا صالحاً وقد ابتلي بمرض السرطان-عافانا الله
وإياكم-...وقد رضي بما أصابه رضا المؤمن الواثق بربه....
وكان ابنه الأكبر قد تقدمت به سن الشباب....وظل زمناً معرضا عن
الزواج....والشيخ يبذل معه المستحيل ليقنعه به....يريد الأب أن يرى ابنه
متزوجاً ومنجباً....إنه الإبن البكر....الذي سافر وعمل في مدينة أخرى....
وآخيرا وبعد جهود حثيثة ومحاولات مستميتة وافق الإبن على
الزواج....وخطبت له شابة جميلة ذات دين وحسب...
وتم عقد النكاح....وبقيت مراسم الزفاف وحفل الزواج....
ولكن حدثت خلافات بين الأسرتين في تلك الأثناء بعد أن أعدوا لكل شيء
عدته....وأعلنوا موعد الزفاف...وتفاقمت الأمور حتى وصلت بالفريقين إلى
طريق مسدود...
وحينها طلب أهل الزوجة الخلاص...
رأى الأب الكبير المريض بناءه الذي شيده بجهد جهيد يكاد ينهار أمامه...
فزادت ألامه....وتضعضعت آماله...
ولكنه ما كان ليدع البناء ينهار....والحلم الجميل الذي أوشك على التحقق
يتلاشى....لم يبق على الموعد المضروب إلا عشرة أيام...يا الله....فماذا
يصنع رجل مسن مريض طريح الفراش؟؟؟...
ولكنه يحمل قلباً مؤمناً....قلباً راجياً تعلق بحبل الله المتين...ورسخت به
أركان اليقين...
شحذ همته....وسل عزمه....وهو المريض طريح الفراش وفوق ذلك الكبير
في السن....
فأقبل يفاوض وهو على السرير لا يكاد ينقلب إلا بمعاونة زوجه الرؤوم....
ودعا بجماعة من الأصدقاء المقربين وجعلهم سفراء للنوايا الحسنة مع أهل
العروس...
وظل يفاوض ويتابع...ويسأل ويتحرى الأخبار يوما بعد يوم....
وكان تدهور حالته الصحية من أسباب إحجام أهل العروس عن إتمام
مراسم الزفاف...لأنهم يرون ذلك الأب صمام أمان في حياة ابنتهم بعد
الزواج لطيب سجاياه وكريم خصاله.أما الشاب فمن عامة الشباب..وهو بين
بين كما يقال..
وملَّ الوسطاء وانقطع السفراء بعد إصرار أهل العروس على موقفهم....
وزاد الأمر صعوبة حين علم ابنه المسافر الذي قدم من أجل الزواج بالأمر
و طلب من أبيه صرف النظر عن الموضوع....مع أنه قد تعلق بالفتاة
وأحبها...
وزادت الضغوط على الأب المسكين المريض الكبير من كل حدب وصوب
من الأهل والأقارب والأصدقاء والوسطاء والسفراء....
ولكن الأب ما كان ليستسلم....وسلم أمره لله الواحد القهار....
وكان لا يفتأ يلح في الدعاء في جميع الأوقات بتيسير الموضوع....وتحقيق
مبتغاه....
مرت الأيام يوما بعد آخر...ولم يبق على الموعد الأصلي للزفاف سوى
أربعة أيام...وأهل العروس ما يزالون مصرين على موقفهم الرافض
للزواج...
جاءه أحد المقربين منه يوماً زائراً....فطلب منه أن يذهب إلى أهل العروس
وأن يتلطف معهم في الخطاب...لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً....
وكانت مفاجأة!!!ذهب الرجل وعاد بعد عدة ساعات....وكأنه يحمل في يديه
شمعة صغيرة في قاعة مظلمة متسعة الأرجاء....
قال:إنهم سوف يفكرون في الموضوع....ويطلبون مهلة عشرة أيام للرد
النهائي....ثم يقومون بتحديد موعد جديد للزفاف...
قال بصوت مبحوح أعياه المرض والألم:عشرة أيام....ما أطولها....
أرجوك اذهب إليهم واطلب منهم أن يكون الرد خلال ثلاثة أيام....
وأسأل الله عز وجل أن يفتح مغاليق قلوبهم لنا....ويجيبوا طلبنا....
حمداً لله!!!لقد عاد الرجل بالموافقة على ثلاثة أيام....وقد وعده الناس
خيراً....
كان الرجل المؤمن يخشى من زائر ثقيل لا يستطيع مع زيارته أن يتابع
مجريات العرس السعيد الذي ينتظره لحظة بعد لحظة....وساعة بعد ساعة..
طلب من صديقه المقرب أن يتوسل إلى أهل العروس ليجعلوا العرس بعد
ثلاثة أيام...على موعده المقرر له أصلاً...
حاول الصديق المقرب أن يقعنه بأن ذلك يعد ضرباً من المستحيل...فهم قد
وافقوا على إعطاء الرد بالموافقة على إتمام مشروع الزواج بعد ثلاثة أيام..
وليس على موعد الزفاف...وسيحتاجون وقتاً لا يقل عن الأسبوعين لترتيب
شؤونهم....
ولكن مع إصراره وتوسلاته ذهب الصديق وقد كبلته أغلال
الإحراج...ليتحدث مع أهل العروس في الموضوع...ولكنه عاد إلى الرجل
المريض بدون نتيجة...
بل إن أهل العروس قد أصابتهم حالة من الامتعاض والتغيظ بسبب تعجل
أهل الزوج على هذا النحو....
لك الله أيها الشيخ الكبير....المبتلى المريض....الحزين المهموم المغموم...
جاءه الصديق المقرب مساء الأحد بعد العشاء يعوده...
اذهب إليهم يا أحمد....أرجوك...حاول أن تقنعهم بأن يكون الزفاف بعد
ثلاثة أيام...
اذهب إليهم...وعسى الله أن يلين قلوبهم...يا أحمد لا بد أن يكون الزفاف
مساء الخميس...
كان أحمد رجلاً عاقلاً....محنكاً ثقة....لا يريد أن يزيد في حالة الرجل
النفسية والجسمانية....حيث لم يعد منه سوى جلد رقيق على عظم دقيق..
ولكن ما حيلته...وكيف السبيل إلى تحقيق طلبه...
ذهب أحمد بعد أن استعان بالله العلي القدير....وأخذ جرعة من حماسة
الشيخ الكبير...وشيئاً من توجيهاته وكلماته....
وطال الانتظار بالشيخ الكبير المريض الشديد المرض...وانتصف الليل...
وطلبت منه زوجه أن ينام....فلن يأتي أحمد بعد ذلك -كما في ظنها-في مثل
هذا الوقت المتأخر...وسوف يأتي في نهار الغد بإذن الله...والشيخ ما انفك يدعو ربه ويتضرع إليه...
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ }...
لن ينام...وكيف ينام...وأنى له المنام....وقلبه يقف في جوف صدره متلهفاً سهرانا قائماً ينتظر
الأخبار!!!!..
الباب يطرق....من الطارق...أنا أحمد....
أبشر أيها الحبيب الغالي....والله ما فرغت إلا هذه الساعة....بشراك بالزفاف
مساء الخميس....
وكانت الدموع الساخنة سيدة الموقف....في منتصف ليلة من ليالي الصيف
الحارة...
وتحلق حوله الأحباب يبكون ويرجونه أن يكف عن البكاء رحمة بجسده
المعنَّى المريض....
في اليوم التالي كانت معنوياته في أعلى معدلاتها....وتباشير السرور تلمع
فوق وجهه المنهك العليل....بالرغم من تقهقر عافيته....واعتلال صحته...
مع مرور اللحظات...
ومع ذلك ظل يتابع ويراقب ويسأل عن الإعداد والتجهيز للفرح في تلك
الليلة التي طالما انتظرها وأعد نفسه للقائها....
كان الزفاف في بيته الكبير-كما اتفق على ذلك من قبل-وجاء يوم الخميس
الموعود....
وإذا ببطلنا قد ساءت صحته جداً....ولم يعد حتى قادراً على الكلام....
وهُرع الأهل والأقربون إلى البيت حين دخل في إغماءة عند الضحى....
ولكنه مالبث أن أفاق قريباً من الظهر ليسأل بصعوبة بالغة عن
الوقت....وعن العروس هل زفت إلى بيت زوجها أم لا؟؟؟؟...
كان الجميع حزينين في يوم الزفاف...ذلك اليوم الذي هزمت فيه مشاعر
الحزن والألم أحاسيس الفرح والأمل في نفوسهم...بسبب انتكاسة صحة ذلك
القلب الكبير....
صلى الشيخ المريض الظهر والعصر وهو مستلق على ظهره يومئ إيماءً..
ثم دخل في غيبوبة مرة أخرى....وساد القلق والخوف والارتياب....
وأفاق الرجل قريباً من العصر....ولم يعد قادراً عن الكلام....بل أخذ يحرك
عينيه ويرفع يده اليمنى ليستعلم بها الأمر؟؟؟...
قالت زوجه:إنه يسأل عن العروس...هل وصلت؟؟؟...
إنها في الطريق...لا تقلق....ولا تحزن.....نحن قلوبنا معك....وستأتي
العروس بإذن الله....
كان يذكر الله بقلبه ويشير بأصبعه السبابة إلى السماء....ويغمض عينيه
ويفتحهما ليسأل بهما عن العروس!!!....
كان الجميع يتحلقون حوله ويحيطون به إحاطة السوار بالمعصم....إنه
قريب من مشهد الوداع....بل إنه الوداع حقاً والالتياع صدقاً....
قلوبهم ومشاعرهم وأجسامهم تحيط بالسرير الأبيض....وتترقب المصير...
وفجأة دوَّت طلقات البنادق....وأعقبتها موجات عالية من زغاريد
النساء...وصخب الأطفال....
جاء ركب العروس....وحل الضيف المأنوس!!!...
هزَّ رأسه قليلاً وأخذ يقلب ناظريه وأومأ إلى زوجه فقامت من وراء ظهره
ووضعت رأسه في حجرها...ودخل موكب العروس المنزل....ومرَّت
العروس من ردهة يطل المجلس الذي يرقد فيه بطلنا عليها....
وحاول رفع رأسه بمساعدة يد زوجه الحانية....يا الله....لقد تحقق حلمه
الكبير...يا الله لقد رأى عروس ابنه الحبيب تدخل إلى بيتها....والزغاريد
تلوح في أجواء العبرات والأحزان....
كانت عيناه تدمعان....شهق شهقة خفيفة.....رفع أصبعه السبابة للأعلى...لا
إله إلا الله....إن لم يقلها بلسانه فلقد قالها بقلبه....ولطالما نطقها بلسانه....
ومرَّ موكب العروس بسلام....وصعدت روحه إلى بارئها ذي الجلال
والإكرام....
كان يوماً عصيباً....ومساء كئيباً ملبداً بالأحزان...اتشح ليله بالسواد على
السواد....
وخرج النعش في ذلك المساء ليوارى الثرى في ليلة العرس الحزين....
لقد حزن الجميع وبكوا....واسترجعوا....ولكنهم فرحوا بتحقيق الرجل لأمله
قبل موته....
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام...
هذه صورة حقيقية من صور الحياة أيها الإخوة القراء....لعل فيها درساً
وعبرة.....
---------
هذا القصة وقعت فصولها قبل أكثر من ربع قرن....
واليوم فقد صار هذان الزوجان جدين....
ألا رحم الله ذلك الشيخ الكبير...
م ن ق و ل