إن التحكم في العقل ومعرفة كيف يفكر، وكيف تتحرك النفس وتتفاعل مع هذا التفكير، وتوجيه ذلك التفكير إلى ما يحقق أهداف الإنسان هو القوة الذاتية التي هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وإدارة العقل سلسلة مكونة من عدة مواضيع ترسم الطريق إلى النجاح من خلال معرفة الذات للسيطرة عليها والبلوغ بها نحو الأهداف المنشودة.
ـ وإذا أردنا أن نتكلم عن النفس والعقل، تلك الأشياء الرائعة المبهرة التي هي آيات من إتقان خلق وصنع الله، فإننا سنسطر منظومة جميلة متكاملة تأخذ بالألباب وتحير العقول.
ـ والإنسان عظيم رائع خلق الله بيديه وأسجد له الملائكة سخر له الكون لخدمته، وأودع فيه من الأسرار الشيء العجيب، لذلك لا تقلل من شأن نفسك بل قدرها، واستعل بها واطلب لها الكمال، فإن معرفة قدر ذاتك وجميل خلق الله هو طريقك إلى النجاح، فإحساسك بالفعل وأنك يمكن أن تفعل هو الذي يقودك إلى الفعل والمحاولة.
وترنم مع الشاعر حيث يقول:
فلم أر في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على ا لكمال
ومن هذا المنطلق يمكننا أن نخوض غمار النفس، هذه النفس العجيبة التي كرمها الله سبحانه وتعالى في كتابه بالذكر في عدة مواضع.
ولكي يستطيع الإنسان إدارة عقله عليه أولاً أن يعرف ويقدر قيمة هذا العقل وهذه القدرة الكامنة العظيمة التي أودعها الله فيه.
وإذا فهمنا ذلك سنظل نسعى حثيثًا لاستكمال النقص البشري والوصول به إلى أعلى الدرجات والمراتب.
ـ وإذا أردنا توضيح القيمة الكبرى للنفس البشرية وما أودع الله فيها من طاقات وقدرات عظيمة استحقت بها الاستخلاف في الأرض، لم نجد خير مثال على ما نقول إلا من كتاب الله ـ تعالى ـ ويتجلى هذا واضحًا في ثلاثة نصوص اخترتها كشواهد وأن هذا التكريم وهذه القدرات هي من عند الله لحكمة بالغة وعظيمة فهمها من فهمها وغفلها من غفلها.
تعال معي عزيزي القارئ نستظل بظلال هذه الآيات والشواهد:
[1] النص الأول: تكريم الله لبني الإنسان:
نجد ذلك في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70].
لقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. وبماذا كرمه؟
1ـ كرمه بخلقه على تلك الهيئة.
2ـ كرمه بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض ورفرفات السماء في ذلك الكيان.
3ـ كرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض يغير فيها ويبدل وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل ويبلغ لها الكمال المقدر في الحياة.
4ـ وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكوكب والأفلاك، وبتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات، ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة الإنسانية لما قامت الحياة الإنسانية وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر [فمن هذه النواميس قانون الطفو للماء والجاذبية الأرضية ولولاها لما عاش الإنسان على الأرض ولا ركب الماء].
لكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها ومزود كذلك بالاستعدادات لتي تمكنه من استخدامها وكله من فضل الله.
"وفضلناهم" بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض، وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذًا بين الخلائق في ملك الله ـ تعالى ـ.
5ـ ومن التكريم أن يكون الإنسان قيمًا على نفسه متحملاً تبعة اتجاهه وعمله، فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانًا: حرية الاتجاه وفردية التبعية، وبهذا استخلف في دار لعمل، فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب.
[2] استعلاء الإيمان:
ونجد ذلك في قوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
لا يكفي أن تكون مسلمًا لتكون عاليًا وتنال النصر والتمكين، بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها الإيمان بالله وطاعة الله وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ويكلمك الله تعالى ويقول: أنت عزيز كريم عالى ولكن بالإيمان بي.
ـ ولا يغيب عنا أن الله ـ تعالى ـ سن في الأرض ذكرها لنا في أكثر من موضع في كتابه الكريم، وفي سياق ذكر القرآن الكريم لسنة الله في الأرض أنه:
1ـ ذكر عاقبة المكذبين على مدار التاريخ.
2ـ ومداولة الأيام بين الناس.
3ـ والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان قوة الصبر على الشدائد.
4ـ واستحقاق النصر للصابرين والمحق للكافرين.
كل ذلك نجده متجسدًا في غزوة أحد الشهيرة.
والقاعدة الأم التي تستشفها من هذه الآية هي: [إن كنتم مؤمنين حقًا فأنتم الأعلون] ,[وإن كنتم مؤمنين حقًا فلا تهنوا ولا تحزنوا]
وما قد يصاب به المسلمون فإنما هي سنة الله في الأرض أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
[3] ونفس وما سواها:
هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة تتضمن حقيقة النفس الإنسانية واستعداداتها الفطرية، ودور الإنسان في شأن نفسه وتبعته في مصيرها.
ـ وفي قسم الله تعالى بالنفس يخلع على هذه النفس قيمة كبرى حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم. وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق فيقول تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}. [الشمس: 7ـ10].
هذه الآيات الأربع بالإضافة إلى آية سورة البلد {وهديناه النجدين} وآية سورة الإنسان {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا}.
تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام، وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان كقوله تعالى في سورة "ص": {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}.
كما أنها مرتطبة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية كقوله تعالى في سورة المدثر: {كل نفس بما كسبت رهينة}.
والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان كقوله تعالى في سورة الرعد: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها.
ـ إن هذا المخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه [من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه] مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التميز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء.
ـ وأن هذه القدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن:
1ـ الإيهام تارة: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
2ـ الهداية تارة: {فهديناه النجدين}.
فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.
والرسالات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك، ولكنها لا تخلقها خلقًا لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبقًا، كامنة إلهامًا.
القوة الكامنة:
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة عزيزي القارئ قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة.
فمن استخدام هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها وتغليبه على استعداد الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}.