" ولقد عجبت لأهل الأمل وطمعهم في طول العمر فوجدت أعدى الناس للناس الأولاد لآبائهم عمل آباؤهم في الاستكثار لهم وأتعبوا أبدانهم في إصلاح معايش غيرهم بهلاك أنفسهم وشاركهم في اللذة غيرهم فأفردوا بالسؤال عما كدحوا كصاحب السفينة قالوا وكيف كان مثل صاحب السفينة مثل قال زعموا أنه كان رجل نجار كان يعمل بيده فيصيب في كل يوم درهما ينفق نصفه على أب له شيخ كبير وامرأة له وابن وبنت ويدخر نصفه فعمل زمانا عايشا بخير فنظر يوما فيما عمل وما كسب فإذا هو قد استفضل مئة دينار قال والله إني لفي باطل من عملي هذا ولو عملت سفينة واستقلت تجارة البحر رجوت أن أتمول فهو خير من عمل القدوم فلما عرض ذلك من رأيه على أبيه قال يا بني لا تفعل فإن رجلا من المنجمين أخبرني أيام ولدت أنك تموت غرقا قال فما أخبرك أني أصيب مالا قال بلى ولذلك نهيتك عن التجارة والتمست لك عملا تعيش فيه يوما بيوم قال أما إذ كان في قوله أني أصيب مالا فوالله ما جل إصابة المال إلا في التجارة في البحر قال يا بني لا تفعل فإني أخاف عليك الهلاك قال أليس يكون لي مال إن عشت عشت بخير وإن مت تركت أولادي بخير قال يا بني لا يكونن ولدك آثر عندك من نفسك قال لا والله ما أنا بنازع عن رأيي فعمل سفينة وأجاد عملها ثم حملها من صنوف التجارات ثم ركب فيها فغاب عن أهله سنة ثم قدم عند تمام الحول بقيمة مئة قنطار ذهب فحمد الله والده وأثنى عليه وكره له ما أصاب من المال فقال له يا بني إني كنت نذرت لله عزوجل إن ردك الله سالما أن أحرق سفينتك قال يا أبتي لقد أردت هلاكي وخراب بيتي قال يا بني إنما أردت بذلك حياتك وقوام بنيك وأنا أعلم بالأمور منك وأراك قد وسع الله عليك فأقبل على العمل برضوان الله تعالى والشكر له فإنك قد أصبت غني الدهر وأمنت بإذن الله من الفقر وإنما أردت بما جعلت علي السلامة لبدنك فلا تفجعني يا بني بنفسك
قال أليس الحق أحب إليك من الباطل قال بلى قال فما أريد أن أقيم إلا إياما حتى أرجع فأجول جولة أصيب فيها أضعاف ما قد ترى فخرج فغاب سنة وبعض أخرى ثم قدم بأضعاف ما قدم به أول مرة من الأموال ثم قال لأبيه كيف ترى لو أني أطعتك لم أصب من هذا المال شيئا
قال أبوه يا بني أراك تعمل لغيرك ولوددت أن هذا صرف عنك في سلامة بدنك وسيجرعك ما ترى غصة فتتمنى لو كان بينك وبين هذه اللذة جبال المشرق قال يا أبتي إنما دعاك إلى هذا قول المنجم وأنا أرجو أن يكون قد أصاب في الغنى وأخطأ في الغرق ثم أمر بصنعة سفينة أخرى فلم يقم إلا أربعين ليلة حتى أجمع أن يركب البحر فقال له أبوهأما أنه ليس يمنعني من الإلحاح عليك في هذه المرة إلا ما قد يكون من معصيتك في المرة الأولى فقد رأيت أشياء صدقت عندي قول المنجم وانسكبت عيناه بالدموع فرق لذلك ابنه وقال يا أبة جعلني الله فداك اصبر لي مرتك هذه فوالله لئن ردني الله سالما لا ركبت بحرا ما عشت قال الشيخ يا بني اليوم والله أيقنت بفقدك والله لا ترجع من هذا الوجه حتى ترجع الشمس من مغربها ثم تلهف عليه وبكى إليه وناشده الله فلم يسمع مقالة أبيه ولم يمنعه أن خرج في سفينتين قد شحنهما تجارة فلما توسط موج البحر أصابه راموز شديد فأصابت إحدى سفينتيه الأخرى فانصدعتا فغرقتا فذكر التاجر وهو يسبح مقالة المنجم وتلهف على عصيانه والده وهلك هو وجميع أصحابه بعد سباحة يوم فنبذهم البحر إلى الساحل من منزل أبيه على مسيرة يومين فلم تمر بهم أيام حتى وصل إلى الشيخ الخبر فصبر واحتسب ونحل وكمد حتى هلك أيضا وقسم الميراث على امرأة التاجر وابنه وابنته فتزوج ابنه وتزوجت امرأته وابنته فصار ما جمع إلى زوج امرأته وزوج ابنته وامرأة ابنه وكل ما يجمع الأشقياء إلى ذلك يصير